افتتاحية
إن التمرّد العربي الذي نشب سنة 2011 ينتمي إلى فئة نادرة من الأحداث التاريخية: إنه تسلسلُ تمرّدات سياسية، واحدٌ يفجّر الآخر، عبر منطقة من العالم برمّتها. كان هناك ثلاثة أمثلة سابقة فحسب: حروب التحرير الأميركية اللاتينية التي بدأت سنة 1810 وانتهت سنة 1825؛ الثورات الأوربية بين 1848- 49؛ وسقوط أنظمة الكتلة السوفيتية، 1989-91. كان كلُّ حدث من هذه الأحداث مُحدَّداً تاريخياً بزمانه ومكانه، كما ستكون سلسلة التمردات في العالم العربي. لم يستمرّ أيّ منها أقل من سنتين. إنّ أي تنبؤ بالنتائج سيكون سابقاً لأوانه، بما أنه لم يمرّ أكثر من ثلاثة أشهر على اشتعال عود الثقاب أولاً في تونس في كانون الثاني\\يناير، وامتدت ألسنة اللهب إلى مصر والبحرين واليمن وليبيا وعمان والأردن وسوريا. إن الأكثر جذرية بين الأحداث الثلاثة سابقة الذكر انتهى بهزيمة منكرة سنة 1852. انتصر الحدثان الآخران، لكنّ ثمار الانتصار كانت مرّة؛ وأكيد أنها كانت بعيدة عن آمال بوليفار أو بوهلي. يمكن أن يشبه المصير النهائيّ للتمرد العربي أيّاً من هذين النموذجين. ولكن من المرجح أن يكون نسيج وحده مثلهما.
1
ثمة سمتان فصلتا طويلاً بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا داخل الكون السياسي المعاصر: الأولى هي المدة الطويلة والفريدة والكثيفة للسيطرة الإمبريالية على المنطقة، في القرن الماضي. فمن المغرب إلى مصر، قُسِّمت السيطرة الاستعمارية على شمال أفريقيا بين فرنسا وإيطاليا وبريطانيا قبل الحرب العالمية الأولى، فيما أصبح الخليج سلسلة من المحميّات البريطانية، وصارت عدن مخفراً أمامياً للهند البريطانية. وبعد الحرب وقعتْ غنائم الإمبراطورية العثمانية في يد بريطانيا وفرنسا، اللتين فرضتا إرداتهما على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، في الغنيمة الأخيرة الكبيرة الأوروبية من الأراضي. وقد وصل الاستعمار الرسميّ متأخراً إلى كثير من العالم العربي. فقد احتُلّت أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى وجنوب شرق آسيا والهند، ناهيك عن أميركا اللاتينية، قبل وقت طويل من بلاد ما بين النهرين أو المشرق. وعلى عكس أي من هذه المناطق، ترافق التحرر من الاستعمار مع سلسلة متواصلة من الحروب الإمبريالية والتدخلات في الفترة ما بعد الاستعمارية.
2
بدأتْ هذه الأمور مع بداية الحملة البريطانية لإعادة تنصيب حاكم دمية في العراق سنة 1941، وتكاثرت مع إنشاء الدولة الصهيونية على مقبرة التمرد الفلسطيني، الذي سحقه البريطانيون في 1938-39. ومذاك فصاعداً بزغتْ قوة استعمارية توسّعيّة، عملت أحياناً كشريك، وفي أحيان أخرى كمستهلّة للاعتداءات الإقليمية على نحو متكرر، وارتبطت ببزوغ الولايات المتحدة مكان بريطانيا وفرنسا كحاكم مطلق للعالم العربي. ومنذ الحرب العالمية الثانية، شهدت العقود كلّها حصادها من التسلّط أو عنف المستوطن. وفي الأربعينيات حدثت النكبة التي سبّبتها إسرائيل في فلسطين. وفي الخمسينيات شُنَّ العدوان الثلاثي الإنكليزي ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي على مصر وأنزلت أميركا قواتها في بيروت. وفي الستينيات نشبت حرب الأيام الستة الإسرائيلية ضد مصر وسوريا والأردن. وفي السبعينيات، اندلعت حرب يوم خيبر (حرب تشرين) التي تحكّمتْ الولايات المتحدة بنتائجها. وفي الثمانينيات، حدث الغزو الإسرائيلي للبنان وسُحقتْ الانتفاضة الفلسطينية. وفي التسعينيات، اندلعتْ حرب الخليج. وفي العقد الأخير، حدث الغزو الأميركي للعراق واحتلالها. وبدأ قصف الناتو لليبيا سنة 2011. لم تُولد جميع أفعال الحرب هذه في واشنطن ولندن وباريس أو تل أبيب فحسب. كانت النزاعات العسكرية ذات المنشأ المحليّ شائعة بما يكفي أيضاً: الحرب الأهلية اليمنية في الستينيات، احتلال المغرب للصحراء الغربية في السبعينيات، الهجوم العراقي على إيران في الثمانينيات وغزو الكويت في التسعينيات. ولكن الانخراط الغربي (أو التآمر) كان دائم الحضور. ولم يكن يتحرّك أي شيء في المنطقة من دون انتباه إمبريالي دقيق، وحين تقتضي الضرورة كانت تُستخدم القوة أو التمويل.
3
إن أسباب الدرجة الاستثنائيّة للحذر الأوربي ـ الأميركي والتدخل في العالم العربي واضحة. من ناحية، إنه مستودع لاحتياطي النفط الأكبر في العالم، وهذا حيوي لاقتصادات الغرب المعتمدة على الطاقة؛ مما ولّد قوساً واسعاً من المواقع الإستراتيجية، من قواعد بحرية وجوية واستخباراتية في الخليج، إلى قواعد عسكرية في العراق، وحدث اختراق عميق للمؤسسات الأمنية المصرية والأردنية واليمنية والمغربية. كانت هذه هي الخلفية التي أُدرجتْ فيها إسرائيل التي يجب أن تُحْمى بما أن أميركا موطن لوبي يهودي متأصّل في جماعة المهاجرين الأكثر قوة في البلاد، والذي لا يجرؤ أي رئيس أو حزب على مواجهته، فيما تحمل أوربا ذنب المحرقة. وبما أن إسرائيل بدورها قوة محتلة ما تزال تعتمد على الرعاية الغربية، صار رعاتها هدفاً للردّ من قبل الجماعات الإسلامية، التي تمارس الإرهاب كما فعلت منظّمتا الإرجون (المنظمة العسكرية القومية في إسرائيل) وليحي في وقتهما، وتستغلّ الالتصاق الغربي بالمنطقة إلى درجة عالية. لم يتمتع أي جزء آخر في العالم بالمستوى نفسه من علاقة الهيمنة المستمرة.
4
إن السمة المميّزة الثانية للعالم العربي هي طول فترة حكم وقوة أنظمة الاستبداد التي أنهكته منذ التحرر من الاستعمار. ففي الثلاثين عاماً الماضية انتشرتْ الأنظمة الديمقراطية، كما فهمتها منظمة "بيت الحرية" من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى إلى جنوب شرق آسيا. أما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فلم يحدث شيء مماثل. فقد واصل طغاة من مختلف الأنواع السيطرة في تلك المناطق، دون أن يبدلهم الزمن أو الظروف. فالعائلة السعودية (إن المعنى الأكثر ملاءمة لها هو العائلة المافيوية الصقلية) والتي كانت المسند المحوري للقوة الأميركية في المنطقة منذ اتفاقية روزفلت معها، حكمت دون فحص شبه جزيرتها لمدة قرن تقريباً. إن المشائخ التافهين للخليج وعمان، والذين تمّ تعيينهم، نادراً ما كانت لديهم الحاجة للإصغاء إلى شعوبهم مثلهم مثل الوهابيين المجاورين، مساعدي واشنطن. أما السلالتان الهاشمية والعلوية في الأردن والمغرب (الأولى صنيعة الاستعمار البريطاني والثانية وارثة بوصية من الاستعمار الفرنسي) فقد ورّثتا السلطة لثلاثة أجيال من الحكام الملكيين المستبدّين دون إيماءات مهمة لتأسيس واجهة برلمانية. إن التعذيب والقتل أمران روتينيان في هذه المناطق، التي يحكمها أفضل أصدقاء الغرب.
5
لم يكن الأمر مختلفاً عن ذلك في الجمهوريات الشكلية لتلك الفترة، والتي كانت جميعها ديكتاتورية متوحشة، ومعظمها ليست أقل سلالية من الملكيات نفسها. هنا أيضاً، إن طول فترة حكم الحكام لا مثيل له في أي مكان في العالم: بقي القذافي في السلطة 41 سنة، وحكمَ الأسد الأب والأسد الابن 40 سنة، وحكم صالح 32 سنة، ومبارك 29، وبن علي 23. ولم يتخلّ عن هذا العرف سوى الجيش الجزائري، الذي كان يدير الرئاسة على طريقة الجنرالات البرازيليين، إلا أنه حافظ على احترامه لكل مبادئ القمع. ولم تكن هذه الأنظمة، في مظهرها الخارجيّ، مذعنة بشكل متجانس للمسيطر. فالدكتاتورية المصرية، التي أُنقذت من نفق كارثة عسكرية سنة 1973 بفضل الولايات المتحدة، صارت بعد ذلك بيدقاً مخلصاً لواشنطن، وكانت استقلاليتها العملياتية عنها أقل من استقلالية السعودية. وقد اشتُري الرئيس اليمني بسعر مخفّض للخدمة في الحرب على الإرهاب. وأمّن التونسيّ رعاة له في أوربا، ولكن ليس بشكل حصري في فرنسا. وكان للنظامين الجزائري والليبي، اللذين يتمتعان بعائدات ضخمة من الموارد الطبيعية، هامش أكبر من الاستقلالية، ولو في نموذج من الإذعان الكلي المتزايد الذي اقتضى أن تضمن الجزائر مباركة الغرب لحربها على المعارضة الإسلامية، ومن ليبيا أن تكفّر عن ماضيها وتوظّف استثمارات هائلة في إيطاليا. وكانت العقبة الوحيدة المهمة، هي سوريا، التي رفضت الخضوع دون استعادة مرتفعات الجولان، التي تحتلها إسرائيل، ولم ترغب بأن تجعل الموزاييك المستحاثيّ للبنان يقع في أيدي المال السعودي والاستخبارات الغربية. لكن هذا الاستثناء، عُبِّئ، دون صعوبة، في عملية عاصفة الصحراء.
6
إن سمتي المنطقة: الهيمنة المستمرة للنظام الإمبريالي الغربي عليها وافتقارها المتواصل للمؤسسات الديمقراطية، كانتا مرتبطتين. ولم يكن استنتاج هذا الترابط سهلاً. فحين تُعدّ الديمقراطية بأنها تشكّل تهديداً لرأس المال، لا تتردد الولايات المتحدة وحلفاؤها أبداً في القضاء عليها، كما تبيّن مصائر مصدق وأربينث وأييندي أو حالياً أرستيد. وبشكل معكوس، حين تكون حكومة الفرد المطلقة جوهرية لرأس المال، فإنّها تُحرس جيداً. إن الحكومات الاستبدادية لشبه الجزيرة العربية، التي تستند إلى حَسَنات قبليّة وعمل مهاجرين مرهق، هي قوادم إستراتيجية لما يُدعى بـ "السلم الأميركي"، وستتدخل البنتاغون بين عشية وضحاها كي تحافظ عليها. إن الديكتاتوريات (الملكية أو الجمهورية) والتي ترأس عدداً أكبر من السكان المدينيين في أمكنة أخرى من المنطقة، كانت وسائل مختلفة نوعاً ما لنظام أكثر تكتيكية. وقد ساعدت الولايات المتحدة هذه الأنظمة المستبدة ودعمتها في معظم الأحيان، دون أن يعني هذا أنها أنشأتها أو فرضتها. إذ لكل منها جذور أصلية في مجتمعها المحلي، مهما كانت سقاية واشنطن لهذه الجذور جيدة.
7
يقول لينين في ما عُدَّ قولاً فصلاً: إن جمهورية ديمقراطية هي الصَدَفَة السياسية المثالية للرأسمالية. ومنذ سنة 1945، لم يعارض هذا القول أي استراتيجيّ غربي. ذلك أن الإمبراطورية الأوروبية ـ الأميركية تفضّل، من حيث المبدأ، التعامل مع الديمقراطيين العرب أكثر من الطغاة، لكن شرْط أن يحترموا هيمنتها مثلهم. ونادراً ما برهن هذا أنه صعب في المناطق التي طُبقت فيها الديمقراطية من جديد منذ الثمانينيات. لماذا لم يُطبَّق المبدأ نفسه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ جوهرياً، لأن الولايات المتحدة وحلفاءها كان لديهم سبب للخوف من ذلك، وبسبب التاريخ الطويل لعنفهم الإمبريالي في المنطقة، والابتزاز الأبدي لإسرائيل، فإن المشاعر الشعبية يمكن ألا تؤمن راحة انتخابية مشابهة لهم. ذلك أن بناءك لنظام عميل بحدّ السكين وتأمينك ما يكفي من الأصوات له، كما في العراق، هو الأمر نفسه. أما الانتخابات الأكثر حرية فهي شيء آخر، كما اكتشف الجزائريون ورجال فتح الأقوياء. وكلما واجههما انتصار ديمقراطي للقوى الإسلامية يُحكم عليه بأنه مذعن بشكل غير كاف للضغوط الغربية، تصفق أوروبا وأميركا لإلغائه وقمعه. إنّ المنطقين الإمبريالي والديكتاتوري يبقيان متشابكين.
8
هذا هو المشهد الطبيعي الذي حدث فيه التمرد العربي أخيراً، في تسلسل سهّله العاملان الثقافيان العظيمان الموحّدان في المنطقة: اللغة والدين. فالمظاهرات الضخمة التي قام بها مواطنون غير مسلحين، والتي واجهت في جميع الأمكنة تقريباً القمع بالغاز وخراطيم الماء والرصاص بشجاعة وانضباط نموذجيين، كانت رمح الانتفاضات. وفي دولة بعد أخرى، عُبِّر عن المطلب الأعلى بصرخة عالية: الشعب يريد إسقاط النظام. وبدلاً من النظام الاستبدادي المحلي، كان المطلب الجوهري للحشود الضخمة في الساحات والشوارع في أنحاء المنطقة هو الحرية السياسية. وصارت الديمقراطية التي لم تكن جديدة كمصطلح (فقد استخدمت جميع الأنظمة هذا المصطلح على نحو وافر) بل مجهولة كواقع، عاملاً مشتركاً عاماً لوعي حركات قومية متنوّعة. ونادراً ما تجسدتْ الديمقراطية كمجموعة محددة من الأشكال المؤسساتية، بل جاءت قوتها الجذابة من كونها نفياً للوضع القائم (ككل شيء لا تمثله الدكتاتورية) أكثر مما جاءت من التصويرات الإيجابية لها. إن معاقبة الفساد في المراتب العليا للنظام القديم أكثر أهمية من تفاصيل الدستور الذي سيأتي بعد ذلك. لم تكن دينامية الانتفاضات أقل وضوحاً في ذلك. إن هدفها هو، بالمعاني الأكثر كلاسيكية، سياسي صرف: الحرية.
9
لكن لماذا الآن؟ إن أبغض أنواع الأنظمة استمرّ دون تغيير لعقود، دون أن تقوم تمردات جماهيرية ضدها. إن توقيت الانتفاضات يجب ألا يُشرح بأهدافها. ولا يمكن أن تُعزى فحسب إلى قنوات الاتصال الحديثة: مدى انتشار الجزيرة، سهلّ وصول الفيسبوك أو التويتر الأمر لكنهما لم يستطيعا تأسيس روح تمرّد جديدة. إن الشرارة الوحيدة التي أشعلت نار المرج توحي بالجواب. بدأ كلُّ شيء بموت بائع خضار متجوّل بائس ويائس، في بلدة محلية صغيرة في تونس. وفي الاضطراب الذي يهزّ العالم العربي الآن كان هناك ضغوط اجتماعية بركانية: تدنّي الدخل، وأسعار الغذاء المرتفعة، الافتقار إلى السكن، البطالة الهائلة للمتعلمين (وغير المتعلمين) الشبان، وسط انفجار ديمغرافيّ لا نظير له في العالم. في مناطق أخرى قليلة كانت أزمة المجتمع خطيرة، وكان هناك افتقار إلى أي نموذج معقول للتنمية قادر على دمج الأجيال الجديدة.
10
مع ذلك، حتى الآن، ثمة انقطاع كامل بين الينابيع الاجتماعية الأعمق للتمرد العربي وأهدافه السياسية. وعكس هذا جزئياً تركيبة فرقائه. ففي المدن الكبيرة (المنامة هي استثناء) لم يكن الفقراء بالمجمل هم الذين تدفقوا إلى الشوارع، ولم يقم العمال بأي إضراب عام متواصل، ونادراً ما ظهرَ الفلاحون. كان هذا نتيجة عقود من قمع الشرطة وسحق التنظيم الجماعي من أي نوع بين المحرومين. سيستغرق هذا وقتاً كي يعاود الظهور. ولكن الانقطاع هو أيضاً نتيجة الفراغ الإيديولوجي الذي تُرك فيه المجتمع في العقود نفسها، مع التشكيك بالقومية العربية والاشتراكية، واستئصال العقائدية الراديكالية، مما ترك فقط إسلاماً باهتاً ورجعياً. في هذه الأوضاع، التي أنشأتها الدكتاتورية، لم يستطع قاموس التمرد سوى أن يركّز على الدكتاتورية (وسقوطها) في خطاب سياسي، وليس أكثر من ذلك.
11
ولكن الحرية تحتاج إلى أن يُعاد ربطها بالمساواة، وبدون اتحادهما فإن الانتفاضات يمكن أن تضمحلّ بسهولة في نسخة برلمانية من النظام القديم، وتعجز عن الاستجابة للتوترات والطاقات الاجتماعية المتفجرة مثلها مثل الأوليغاركيات المنحطة لفترة ما بين الحربين. إن الأولوية الإستراتيجية ليسار يعاود الظهور في العالم العربي يجب أن تكون سدّ الثغرة في التمردات عبر القتال من أجل أشكال الحرية السياسية التي ستسمح لهذه الضغوط الاجتماعية بالعثور على تعبير جماعيّ أمثل. هذا يعني، من ناحية: الدعوة إلى الإلغاء الكامل لقوانين الطوارئ؛ حلّ الحزب الحاكم أو الإطاحة بالعائلة الحاكمة؛ تطهير جهاز الدولة من صور ورموز النظام القديم؛ وإحالة قادته إلى العدالة. من جانب آخر، تعني انتباهاً دقيقاً وخلاقاً إلى تفاصيل الدساتير التي ستُدوَّن حالم يتم التخلص من بقايا النظام السابق. فالمتطلبات الأساسية هنا هي: حريات مدنية ونقابية للتعبير والتنظيم بلا حدود؛ غير مشوهة، أي أنظمة انتخابية متناسبة، غير مزورة؛ تجنّب الرئاسات مطلقة الصلاحية؛ منع الاحتكارات الخاصة أو الحكومية في وسائل الاتصال؛ وحقوق قانونية للأقل استفادة من الرفاه العام. وفي إطار مفتوح من هذا النوع فحسب يمكن أن تتكشف المطالب من أجل العدالة الاجتماعية التي بدأ بها التمرد في الحرية الجماعية التي يحتاجون إلى العثور على أي تحقق لها.
12
ثمة غياب واحد ملحوظ في التمرد. ففي الأكثر شهرة بين التمردات المتسلسلة الأوروبية (1848-49) تشابكت ثلاثة أنواع من المطالب الجوهرية وليس نوعين فحسب: السياسي والاجتماعي والقومي. ماذا عن الأخير في التمردات العربية سنة 2011؟ إن الحركات الجماهيرية لهذا العام لم تنتج حتى الآن مظاهرة واحدة معادية لأميركا أو إسرائيل. فالتشويه التاريخي للقومية العربية وفشل الناصرية في مصر كانا بدون شك أحد الأسباب الكامنة وراء هذا. وكان سبباً آخرَ هو أن المقاومة اللاحقة للإمبريالية الأميركية قامت بها أنظمة مثل سوريا وإيران وليبيا وهي قمعية مثل تلك الأنظمة التي تواطأت معها، ولم تقدم نموذجاً سياسياً بديلاً لها. مع ذلك يبقى مذهلاً أن المعاداة للإمبريالية هي الكلب الذي لم ينبح، أو لم ينبح بعد، في ذلك الجزء من العالم الذي تتجلى فيه القوة الإمبريالية مرئية أكثر من غيرها. هل يمكن أن يستمر هذا؟
13
تستطيع الولايات المتحدة أن تتبنى وجهة نظر تفاؤلية حيال الأحداث حتى الآن. ففي الخليج، سُحقت انتفاضة البحرين التي كان يمكن أن تعرض للخطر مقرات قواتها البحرية بتدخل مضاد للثورة يعود إلى تقاليد 1849 الأفضل، ومن خلال عرض مؤثر للتضامن بين السلالات. صمدت المملكة السعودية والمملكة الهاشمية. ويبدو الحصن اليمني في المعركة ضد السلفية أكثر اهتزازاً، ولكن الدكتاتور المقيم جوهريّ. وفي مصر وتونس، ذهب الحاكمان، ولكن الهرمية العسكرية القاهرية، بعلاقاتها الممتازة مع البنتاغون، بقيت سليمة، والقوة المدنية الأكبر التي بزغت في كل بلد هي القوة الإسلامية المدجّنة. ففي السابق كان احتمال دخول الأخوان المسلمين أو أعضائهم الإقليميين إلى الحكومة سيسبب ذعراً خطيراً في واشنطن. ولكن الغرب يمتلك الآن جدول أعمال مُطَمْئناً في تركيا يجب أن يُنسخ بأيد عربية، كي يقدم أفضل العوالم السياسية. وقد أظهر حزب العدالة والتنمية كم هو مخلص للناتو ولليبرالية الجديدة، وكم هو قادر على تقديم الحقن الملائمة من التهويل والقمع، بيّن أيضاً كيف يمكن أن تكون ديمقراطية ورعة ليبرالية تؤرجح بيدها صولجان القرآن. إذا كان يمكن العثور على أردوغان للقاهرة وتونس، ستمتلك واشنطن جميع الأسباب كي تكون راضية باستبدال مبارك أو بن علي.
14
في إطار احتمال كهذا، يمكن أن يُعدّ التدخل العسكري في ليبيا كغطاء للكعكة، يصقل أوراق الاعتماد الديمقراطية للغرب ويتخلص من متطوّعها الأخير الأكثر إحراجاً في مراتب "المجتمع الدولي". إن مبادرة الهجوم على ليبيا، والتي هي ترف أكثر مما هي ضرورة للقوة العالمية الأميركية، جاءت من فرنسا وبريطانيا، كما لو في إعادة لحملة السويس. مرة أخرى، تولّت باريس القيادة، كي تنظّف ساركوزي من علاقات حكومته الحميمة مع بن علي ومبارك، وإيقاف سقوطه الكارثي في الانتخابات؛ وشاركت لندن أيضاً كي تسمح لكاميرون برغبته المعبر عنها بشكل متكرر كي يحاكي بلير؛ وقدم مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية الغطاء للمغامرة، في محاكاة متواضعة لإسرائيل في 1956. ولكن القذافي ليس عبد الناصر، وهذه المرة، أوباما، الذي لديه أسباب قليلة كي يخشى النتائج، يمكن أن يماشيها، وهو بروتوكول هيمنة يقتضي بأن تتولى الولايات المتحدة القيادة الاسمية وتنسق النجاح النهائي، سامحة لبلدين مشاركين في القتال كبلجيكا والسويد أن يستعرضا بسالتهما الجويّة. أما بالنسبة للمحتفظين بمناصبهم من حقبة كلنتون في النظام الأميركي الحالي، فستكون العلاوة الإضافية هي إعادة تأهيل التدخل الإنساني، بعد النكسات التي واجهته في العراق. وبشكل مُتَنبأ به، إن الإعلام والأنتلجنسيا الفرنسية، كانا منتشيين من استعادة بلادهما للشرف في هذا الخط من المسعى. ولكن حتى في أميركا، إن التشكيك واسع الانتشار: ذلك أن صلصة الإوزّة الليبية مختلفة بوضوح صارخ عن صلصة الإوزة البحرينية، أو أية إوزّة أخرى.
15
حالياً، لا شيء من هذا غضّن سطح المشهد منذ حدوث التمرد. فقد امتزج اضمحلال قوة المهيمن، والانشغال بالهموم القومية، والتعاطف مع المتمردين الليبيين، والأمل بأن الحادثة ستنتهي بسرعة، مع ردود فعل ساكنة على القصف الأخير من الغرب. ولكن من غير المرجّح أن يُسْتبعَد العنصر القومي طويلاً من السياسي والاجتماعي في الاضطراب المستمر. ذلك أنه في العالم الإسلامي، إلى الشرق من منطقة التمردات، لم تُربح بعد الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان وباكستان، والحصار على إيران ما يزال بعيداً عن نتيجته المنطقية؛ وفي مركز منطقة التمردات ما يزال احتلال الضفة الغربية والحصار على غزة مستمرين كما كانا من قبل. حتى الأكثر اعتدالاً بين الأنظمة الديمقراطية يمكن أن يواجه صعوبة في عزل نفسه عن مسارح التفوق الإمبريالي هذه والوحشية الاستعمارية.
16
كانت القومية في العالم العربي عملة ممسوكة في غالب الأحيان. فمعظم الدول في المنطقة (مصر والمغرب هما استثناءان) هي كيانات صنعتها الإمبريالية الغربية. ولكن كما في أفريقيا الواقعة في جنوب الصحراء وما وراءها لم تكن الأصول الاستعمارية عقبة أمام الهويات ما بعد الاستعمارية المتحققة داخل الحدود المصطنعة التي رسمها المستعمرون. بهذا المعنى، تمتلك البلدان العربية كلّها اليوم هوية جماعية قوية وعنيدة كأي بلد آخر. ولكنّ هناك فرقاً. إن اللغة والدين، المتشابكين في النصوص المقدسة، كانا (وما يزالان) يتمتعان بالقوة تاريخياً، وهما مؤشران ثقافيان مشتركان ليس لإثقال كل دولة خاصة بفكرة عليا لأمة عربية، منظوراً إليها كعامل واحد. إن ذلك المثال فسح المجال لصعود قومية عربية مشتركة ليست مصرية أو عراقية أو سورية.
17
تبع ذلك صعود وفساد وفشل الناصرية وتجربة حزب البعث. وهما لن ينتعشا اليوم. ولكن الدافع وراءهما يجب أن يُستعاد في العالم العربي، إذا كان يجب أن يصير التمرد ثورة. يجب أن يتم الجمع بين الحرية والمساواة، ولكن بدون إخاء، في منطقة مستهدفة بشكل واسع ومتّصلة فيما بينها، فإنهما يمكن أن تفشلا. ومنذ الخمسينيات فصاعداً كان ثمن الأنانيات المتنوعة للتقدم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عالياً. فما هناك حاجة إليه ليس النسخة المشوهة للتضامن الذي تقدمه الجامعة العربية التي ينافس سجل إفلاسها وخيانتها منظمة الدول الأميركية في الأيام التي دعاها كاسترو فيها، بإنصاف تام، وزارة المستعمرات الأميركية. ما هو مطلوب هو عالمية عربية كريمة، قادرة على تصور (في المستقبل البعيد، حين يُطاح بآخر شيخ) التوزيع المتساوي للثروة النفطية بشكل يتناسب مع السكان في العالم العربي، ورفض الثروة الفاحشة للقلة وفقر الكثيرين اليائسين. وفي المستقبل الأكثر قرباً، إن الأولوية واضحة: إعلان مشترك أن الاتفاقية المذلة التي وقعها السادات مع إسرائيل هي لاغية قانونياً، هذه الاتفاقية التي لا تمنح مصر سيادة كافية كي يتحرك جنودها بحرية على أرضهم، وكذلك الاتفاقية المرتبطة بها عن فلسطين، الجديرة بالاحتقار، التي لم تتظاهر إسرائيل حتى بالتقيد بها. وهنا يكمن الاختبار الحقيقي لاستعادة كرامة ديمقراطية عربية.
[نشر للمرة الأولى بالإنجليزية على موقع “ New Left Review” ترجمة إلى العربية لجدلية أسامة إسبر]